قصة "قتلوني"

لما وصلت "فاطمة" عند مدخل المبنى، وضعت الأشياء التي كانت في يدها على الأرض، وجلست عليها. وعلى الرغم من أنها كانت تشعر بالاختناق، وتغلب عليها الرغبة في البكاء أثناء استقلالها الحافلة منذ فترة، وتأرجحها على الفراش الرطب بالقطار منذ ليلة أمس، فإنها تمالكت نفسها بصعوبة ولم تبك. كانت تعرف أنها لو بكت، فسوف تنظر "فريدة" إليها، وستبكي هي الأخرى. بدأت "فريدة" فعلاً في البكاء، لا أرى اللهُ أحدًا هذا. لقد أصبح حال وجهها وعينيها في حالة جعلت "فاطمة" تنسى همها، احتوت الطفلة بسرعة في حضنها، وربَّتت على كتفها، حتى لا تفتح فمها، ويتسع كأنه سيصل إلى أذنيها، وحتى لا تنفرج فتحتا أنفها الضخم، ويملأ وجهها بالكامل. ولكن عندما وصلت إلى مدخل المبنى الرمادي متعدد الطوابق الذي يقع بين الشوارع المزدحمة، لم تستطع أن تتمالك نفسها، وضعت على الأرض عند مدخل الباب السلة المليئة بالكمثرى الشتوية التي لفت أمس بالقرية كل ثمرة منها في ورقة منفصلة، ووضعتها بعضها فوق بعض، وجنبًا إلى جنب بعناية حتى لا تتفتت، ثم جلست عليها، وأخفت عينيها بغطاء رأسها حتى لا تراها "فريدة"، وبكت في صمت.

نظرت "فريدة" أيضًا إلى أمها، وأمسكت بدرابزين السلم بشدة، ودلّت شفتها، وكانت تستعد للبكاء، فتنهض "فاطمة" على قدميها بسرعة، وعدّلت ملابسها، وأخذت السلاَّت بيدها، وربتت على كتف الطفلة قائلة:

-       كل شيء على ما يرام.

بدأت تصعد السلالم منحنية الظهر بسبب ثِقل السلاَّت. كلما صعدت، وقفت عند كل طابق، وأخذت تقرأ أرقام الأبواب، والكلام المكتوب عليها. كان لا يصدر صوتًا من خلف أي باب من الأبواب المتنوعة الأشكال، وكأنه لا يعيش أحد خلف هذه الأبواب على الإطلاق.

فكرت "فاطمة" في أن سكان المبنى ينامون في ذلك الوقت، ثم تخيلت التالي: تخيلت أن خلف الأبواب وجوهًا ناعسة لسكان المدينة الذين ينامون في أمان واسترخاء على الفُرش الناعمة ذات الأغطية الحريرية بالغرف الراقية. ويبدو الآن أن المستيقظ في هذا المبنى سداسي الأركان متعدد الطوابق هي و"فريدة" فقط. وفي حقيقة الأمر، كانت لا تزال مستيقظة من ليلة أمس، ولم تذق طعم النوم منذ أن جمعت ما ستحضره معها من فاكهة وهدايا ورتبته.

عندما وصلا إلى الطابق الأخير، وضعت "فاطمة" ما بيدها على الأرض، وقرأت المكتوب فوق الباب ذي اللون الأبيض، كُتب بحروف ذهبية في الجزء العلوي للباب:

"شقة 124، خليلوف د. أ".

أشارت برأسها نحو الباب، وقالت:

-       هنا.

عندما نهضت "فريدة" على أطراف أصابعها، وأرادت الاقتراب من الجرس، دفعتْ الطفلةَ إلى الخلف، وقالت بهدوء:

-       انتظري! ...  لا يستيقظون من النوم في هذا الوقت.

ثم أسندت أذنها إلى الباب، وأنصتت بعمق للسكون الموجود بالداخل.

كان الهدوء يسود بالداخل، وكأن ماء يقطر في مكان ما.

على الرغم من أنها انحنت، ونظرت للداخل من خلال فتحة المفتاح، فإنها لم تستطع أن ترى شيئًا. كان ينتشر من فتحة المفتاح دفء المنزل الذي كان عبارة عن خليط من رائحة عطرة ممتزجة برائحة حذاء جديد.

دفعت الأشياء التي أحضرتها بقدمها نحو الحائط، وجلست فوقها، وقالت لـ "فريدة":

-       اجلسي، فلننتظر، لو دخلنا الآن، سيكون عيبًا، سيقولون جاءوا والناس نائمة.

جلست "فريدة" فوق إحدى السلاَّت، وأخذت صُرتها في حضنها.

كان يوجد بداخل الصُّرة ملابس "فريدة" الوردية، والحذاء الجلدي الرمادي الجديد الذي اشتراه أخوها العام الماضي من "باكو" وأحضره لها، وكذلك مشابك شعر وأشرطة صغيرة. أحضرت "فريدة" هذه الأشياء من القرية معها كي ترتديها خلال الأيام التي سوف تقضيها في بيت خالتها "سونا".

لم يمض وقت كثير، حتى بدأ سماع أصوات قليلة من خلف الباب المقابل...  في البداية عطس شخص ما، ثم جاءت أصوات فتح باب وأصوات أقدام. فُتح الباب، وخرج منه رجل متوسط العمر، وفتاتان توأم ترتديان زيًا مدرسيًا، كأن كل واحد من الثلاثة تعلوه حُمرة بسبب أكل طعام ساخن. نظرت الفتاتان، وكذلك الرجل بدهشة إلى "فاطمة" و"فريدة"، ثم إلى السلاَّت الضخمة التي يجلسان فوقها. كانت الفتاتان في نفس سن "فريدة" تقريبًا، كان شعر الفتاتين مُمشطًا ومُجمعًا بجوار عنقيهما بشريطة كبيرة.

التفت إحدى الفتاتين وهي نازلة على السُّلَّم، وأخرجت لسانها لـ "فريدة"، فغلب البكاء على "فريدة" بسبب هذا، وعضت شفتها، ونظرت إلى أمها.

أسندت أمها أذنها إلى الباب الأبيض من المكان التي تجلس فيه، وأنصتت لسماع ما بالداخل، وكأنه يجب الآن حدوث شيء ما وراء الباب.

لم يمض وقت كثير، حتى بدأ سماع صوت خطوات رقيقة من خلف الباب الأبيض. ثم سمع صوت فتح باب إحدى الغرف، تجرأت "فاطمة" ونهضت على قدميها بسرعة، وطرقت الباب بهدوء بأطراف أصابعها.

فتحت السيدة "سونا" الباب، ووقفت فترة أمام الباب وهي ترتدي ملابس النوم الوردية، وشعرها متناثر على كتفها، ونظرت إلى وجه "فاطمة"، وكأنها أول مرة تراها في عمرها، ثم رفعت حاجبيها لأعلى كالمستيقظ من النوم في الحال، وقالت:

-       أوه! ... مرحبًا يا "فاطمة"، خيرًا ؟! ما الذي حدث ؟!...

أثر هذا الكلام في "فاطمة" من بنت عمها عند الباب. بدأت "فاطمة" - وهي متأثرة بذلك ودون أن تنبس بكلمة واحدة- في إدخال السلاَّت الموجودة بجوار الحائط واحدة تلو الأخرى للداخل، بعد أن أدخلتها جميعًا احتضنت بنت عمها وقبَّلتها. قالت والدموع تنهال من عينيها هذه المرة:

-       ليس خيرًا يا "سونا".

-       ماذا حدث ثانية؟ هل تشاجرت مع زوجك؟

قالت فاطمة:

-       لا، زوجي مسكين طريح الفراش منذ فترة.

ثم استندت إلى حائط الطُّرقة، وتنهدت بصعوبة، وقالت:

-       قبضوا على "خصاي".

تأثرت بكلامهما، وأخذت الدموع تنهمر منها كالسيل.

-       آوه! ... متى؟ لماذا؟

-       قلت متى كان لهذا المسكين البائس حظ، حتى يكون له حظ اليوم؟...

قالت السيدة "سونا":

-       انظري إلي، لقد أوقعتني في الخطأ، وقفنا عند مدخل الباب، تفضلي للداخل.

أدخلت السيدة "سونا" "فاطمة" للحجرة، وأجلستها على طرف الكنبة الضخمة ذات الغطاء الحريري المموج.

وجلست هي الأخرى بجوارها.

قالت "فاطمة":

-       قلتُ: الأولاد قد كبروا، وسوف أستريح قليلاً، ها هي راحتي.

قالت "فاطمة" هذا ثم صمتْ.

كانت لا تزال "فريدة" تقف في الطُّرقة محتضنة الصُّرة. كانت لا تعرف أيجب أن تدخل للداخل هي الأخرى أم لا؟!

-       ودعناه بالمزامير والأفراح أول أمس للسفر إلى هنا. وكان يجب عليه أن يسافر اليوم من هنا إلى مدينة "منسك"() لقضاء الخدمة العسكرية(). لم أفكر أنه كان يجب أن أرسل معه أحدًا من القرية يأتي به إلى هنا. فهو لا يزال طفلاً...

ضاقت السيدة "سونا" ذرعًا:

-       حسنًا، قولي، ماذا فعل "خصاي" هذا؟

-       في محافظة "بيلاجرى"....  تجادل مع شخص في المحطة التي تم توديعه فيها للسفر، وتشاجر معه، فقبضوا عليه، وذهبوا به إلى قسم الشرطة. والآن... تغرغرت عينا "فاطمة" مرة أخرى في هذا الموضع، وواصلت كلامها قائلة:

-       ذهب الجميع اليوم...

-       إلى أين؟

-       إلى "منسك".

رفعت السيدة "سونا" حاجبيها، وأطلت في الطُرقة، ونظرت إلى السلاَّت الممتلئة التي تستند إلى بعضها تحت قدمي "فريدة".

مسحت "فاطمة" دموع عينيها، ونظرت للسلاَّت، وقالت:

-       الذي في تلك السلة الضخمة هو كمثري، وفي الباقي بعض السمك الكافيار.

ثم قالت، وهي في شدة الخجل وتنظف الأعشاب العالقة في طرف ثوبها:

-       أقول لكِ، ربما يأتي معي الأخ "رحيم"...  أو على الأقل، يتصل بهم، فقط مجرد اتصال...

رفعت السيدة "سونا" كتفيها:

-       أنت تعرفين طبعه جيدًا، لا يتصل من أجل أي مشاكل أو أعمال شجار حتى لو لابنه نفسه، هو عنيد جدًّا! ...

تنهدت "فاطمة"، ونظرت أولاً إلى "فريدة" الواقفة في الطُّرقة محتضنة الصُّرة، ثم إلى السلاَّت المتعرجة أطرافها.

-       أقول لك، ربما...

-       لا، يا عزيزتي، لا تُصرين. انظري، أنت قطعتِ طريقًا طويلاً، خيرًا فعلتِ، ومكانك على رأسي. ولكن بهذا الشأن...

لفت "فاطمة" غطاء رأسها الذي تزحلق على كتفها، ونهضت على قدميها، وقالت يائسة:

-       ماذا نفعل؟...

ثم أشارت إلى "فريدة":

-       إذًا، دعي "فريدة" تجلس عندكم وأذهب أنا، أرى ماذا سأفعل، أتوسل لهم، وأقول أنا أم لتسعة أطفال، وزوجي طريح الفراش، أخرُّ على ركبتي وأتوسل لهم...  ربما يُطلقون سراحه.

قالت "فاطمة" هذا، وبكت صامتة مرة أخرى، ثم اغرورقت عينا السيدة "سونا" هي الأخرى بالدموع.

-       لا تحزني، ستُحل إن شاء الله، وسيطلقون سراحه بعون الله.

بعد أن انصرفت "فاطمة" ظلت "فريدة" واقفة مندهشة محتضنة صُرتها وسط السلاَّت فترة.

على الرغم من أن السيدة "سونا" قالت لـ "فريدة" وهي تودع "فاطمة": "تعالى للداخل يا بُنيتي، لماذا تقفين عند الباب؟"، لكن "فريدة" لم تتحرك من مكانها.

اتجهت السيدة "سونا" إلى الناحية الأخرى من المنزل بخطوات سريعة دون الاهتمام بالسلاَّت الموضوعة عند باب المنزل، ثم ربما دخلت إلى الحمَّام؛ لأنه سُمع من الحمَّام صوت مياه لفترة. كان هناك صوت خرير الماء، ربما غسلت السيدة "سونا" يديها ووجهها، أو ربما استحمت. وبعد فترة خرجت من هناك وعلى رأسها فوطة ضخمة، ودخلت حجرة النوم، وبعد فترة خرجت إلى الطُّرقة من حجرة النوم وهي ترتدي ملابسها والعطر يفوح منها، وعندما رأت "فريدة" مازالت واقفة في مكانها قالت بدهشة:

-       آه! ...  أنتِ لا تزالين تقفين هنا؟...  لماذا لا تدخلين يا بُنيتي؟ هنا ليس مكانًا غريبًا، أنا وأمك بنات عم، أنا أيضًا خالتك. ادخلي، ادخلي، لا تخجلين. سوف يستيقظ الآن الموجودون بالبيت.

لم تُحرك كلمات السيدة "سونا" هذه "فريدة" من مكانها. أمسكت "فريدة" الصُّرة بقوة أكثر، وحولت وجهها للحائط.

سحبت السيدة "سونا" السلاَّت المليئة بالهدايا إلى المطبخ، ومن هناك قالت السيدة "سونا" بصوت أكثر ودًّا هذه المرة:

-       تعالى هنا يا بنيتي، ساعديني في إفراغ هذا.

* * *

بعد فترة، استيقظ من النوم ابن السيدة "سونا" وزوجته وحفيدان صغيران لها. هرول الطفلان للطُّرقة، وأخذوا يجرون بين الغرف هنا وهناك حاسري الأقدام، ثم وقفا وجهًا لوجه أمام "فريدة"، ووضعا أصابعهما في فميهما، وسلطا النظر عليها صامتين.

شعرت "فريدة" بشدة الخجل من نظرات الطفلين، وتململت في مكانها، وعدّلت شعرها، وضمت قدميها حتى لا يُرى جوربها المرقع.

لم يلتفت الطفلان لنداء أمهما، أو نداءات والدهما القادمة من الحجرة الأخرى، بل وضع الطفلان أصابعهما العشرة في فمهما، وأخذا في إمعان النظر في "فريدة" بحدقيتهما المتضخمة من شدة الدهشة، وكأنهما لا يملان من مشاهدة شيء غريب لم يشاهداه في حياتهما. لم يمر وقت طويل حتى خرجت امرأة شابة من إحدى الغرف المطل بابها على الطُّرقة، وتوجهت نحو "فريدة" بخطوات سريعة، وعندما وصلت إليها، ودون أن تلقي عليها نظرة بطرف عينها أو حتى دون أن تراها بصفة عامة، أمسكت بيد الطفلين بحركات سريعة وسحبتهما إلى المطبخ.

وبعد فترة أقيمت مائدة طعام مهيبة في حجرة الضيوف بمناسبة مجيء "فريدة" أو لأن هذه عادة يومية لأهل المنزل، ووضع الشاي أيضًا، ووضع على المائدة أنواع غريبة من البسكويت، وأكواب اللبن الصغيرة التي تشبه مقابضها منقار الطائر، وأباريق الشاي التي لم ترَ "فريدة" مثلها في حياتها.

شعرت "فريدة" بغثيان من هذه "المائدة المهيبة"، أو ربما من نظرات الجالسين بوجوه مليئة بالتوتر على المائدة...  جلست صامتة مطأطأة الرأس دون أن ترمق الطبق المملوء بالطعام الموجود أمامها.

وضعت السيدة "سونا" في طبق "فريدة" قطعة فطير بالسكر يعلوها الزبد، ثم قالت بنبرة مثل نبرة المعلمة "فريدة":

-       كلي يا بُنيتي، لا تخجلي، لا يوجد هنا أحد غريب.

ارتشف السيد "رحيم" الشاي ساخنًا، واحمر وجهه، وقال ناظرًا للسيدة "سونا"، ومشيرًا إلى "فريدة":

-       يُعرف على الفور أنها ليست من المدينة. إنها قادمة من القرية.

لم تمد "فريدة" يدها إلى الفطيرة، ووضعت عينيها في الأرض مستنشقة الرائحة اللذيذة للفطيرة، وانتظرت أن ينتهي الجميع من تناول الطعام.

بعد تناول الإفطار، ملس السيد "رحيم" على رأس "فريدة" بيده السمينة الناعمة، وذهب إلى العمل، وارتدى والدا الطفلين ملابسهما وخرجا إلى مكان ما وهما يهمسان فيما بينهما. ناولت السيدة "سونا" حفيديها الطعام، وغسلت لهما أيديهما ووجهيهما، وأجلستهما فوق السجادة المفروشة على أرضية حجرة الضيوف، وأفرغت أمامهما كيسًا من ألعاب الأطفال التي أحضرتها من الغرفة الأخرى، أما هي فربما ذهبت للمطبخ من أجل إعداد الغداء.

بعد أن انصرفت السيدة "سونا"، ركز الطفلان نظريهما بإمعان في "فريدة" وهما يلعقان أصابعهما ثانية دون الاهتمام بالألعاب.

علقت اللقمة الأخيرة في حلق "فريدة" من نظرات الأطفال أو من مضغها الفطيرة بسرعة، فجعلتها تكح. وعندما أرادت أن تمسك بفنجان الشاي، التف أحد الطفلين – الكبير سنًّا – نحو الطاولة، وفي لمح البصر استولى على فنجان "فريدة"، ووضعه على فمه، وأخذ يشرب بشراهة، وجرى إلى الطُّرقة وهو يسقط الشاي عليه وعلى الأرض.

ظلت "فريدة" تنظر خلف الطفل في حالة من الذهول... لو كان أحد قد تأخر، لأمسكت به "فريدة" وأوجعته ضربًا لدرجة أن أمه التي ولدته لن تتعرف عليه، ولكن نصائح أمها ووصاياها التي قالتها لها مرارًا وتكرارًا منذ الأمس في أذنيها دائمًا، ويجب عليها أن تلتزم الأدب والاحترام في هذا المنزل: لو جائعه، أو عطشى، يجب عليها ألا تصدر صوتًا أو تتحرك؛ لأنه ليس مثل القرية، هنا المدينة حيث توجد قوانين أخرى تستخدم في المدينة.

شد أحد من الخلف الشريطة الموجودة في رأسها، ففكها، إنه الطفل الآخر، وضع الشريطة في فمه، ولاكها، وتراجع للخلف بفرحة النصر التي تُشع من أعماق عينيه...

مدت "فريدة" يدها، وأرادت أن تمسك بالطفل. وضع الطفل الشريطة بأكملها في فمه، تدحرج على الجانبين كالقط فوق السجادة، فتمالك الضحك "فريدة" من هذا التدحرج للطفل، فخرت على ركبتيها على الأرض، وأخذت تدغدغ الطفل وتداعبه، وتحاول إخراج الشريطة من فمه. آنذاك جاء الطفل الآخر، وخر على الأرض، واحتضن "فريدة" من رقبتها...

جاءت السيدة "سونا" من الطرف الآخر من الطُّرقة على صوتهم، ووقفت عند الباب رافعة يديها العالقة بهما الدهون عاليًا، وشاهدت لعبهما لفترة، ثم قالت بعد ذلك:

-       كوني حذرة، يا بنيتي، هما صغار، كي لا يحدث لهما أي مكروه.

* * *

بعد الغداء، أعدت السيدة "سونا" مكانًا لـ "فريدة" على الكنبة الناعمة ذات الغطاء الحريري المموج، ومن أجل تنويم الأطفال، ذهبت بهما إلى الحجرة الأخرى وهما يصرخان ويبكيان، وبعد فترة سُمعت من هناك أصوات الطفلين اللذين ابتهجا بعض الشيء من اللعب مع "فريدة"، ثم خيم الهدوء على البيت.

كانت حجرة الضيوف المضيئة ذات السقف المرتفع هادئة. كانت تُسمع فقط فيها الدقات الرتيبة لساعة الحائط الضخمة المُسلطة إليها من الحائط المواجه. خلعت "فريدة" ملابسها تحت هذه الدقات، ودخلت تحت البطانية البنية ناعمة الملمس التي فرشتها السيدة "سونا" فوق الكنبة، واستدارت على جنبها، وأغمضت عينيها، وعلى الرغم من أنها حاولت أن "تسمع الكلام" كما أمرتها أمها وتنام، فلم تستطع النوم. ذكّرها قماش الكنبة المزخرف المصنوع من الحرير المموج بالأرائك المستخدمة في قصور الأمراء والخلفاء التي ظلت عالقة بذهنها من الصور الملونة التي شاهدتها في كتاب "الحكايات الأذربيجانية".

بعد أن تمددت فترة على هذا النحو، استدارت على ظهرها، وشبكت يديها تحت رأسها، وبدأت في التفكير في أمها محدقة في السقف... وأشفقت على أمها. ربما لم تنم أمها على كنبة ناعمة هكذا مطلقًا، ولا تحت بطانية بفرو ناعم بهذا الشكل، أو ربما أيضًا لم تذق أمها أيًا من الأطعمة التي كانت موجودة على المائدة طيلة عمرها، بل ربما لن تتذوقها مطلقًا في حياتها، ولم تعرف مطلقًا أن في الدنيا مثل هذا البسكويت...

تنهدت وفكرت في أن أمها الآن تطوف وتجول في هذه المدينة التي لا تعرفها وفي شوارعها المتداخلة المليئة بالناس بحثًا عن "خصاي"...  يا تُرى أين "خصاي" الآن؟...  عندما سمعوا أمس خبر القبض على "خصاي"، قال زوج خالتها الكبرى الذي تعلوه حمرة بطريقة غريبة:

-       طوى كتاب "خصاي". والنجاة من الشرطة في المدينة أمر صعب!

ما إن قال هذا، حتى أجهشت أمه في البكاء فجأة لدرجة أن "فريدة" أُصيبت بالمغص. ولكنها لم تبكي، وتمالكت نفسها، ونظرت داخل عين هذا الرجل السيئ الذي يعلو وجهه حمرة.

دقت ساعة الحائط: الثالثة والنصف.

وبسبب هبوب رياح عاتية في الخارج، كانت تتسرب الرياح للداخل بصفير هادئ من خلال إطارات النوافذ المغلقة، وتُحرك الستائر.

نهضت على قدميها، ووضعتها بهدوء على الأرض، واقتربت من النافذة، ونظرت للشارع. كان المطر يهطل...  وكان هناك أشخاص قليلون على الرصيف المقابل يُخفون وجههم وسط ياقات معاطفهم، ويهرولون بخطوات سريعة نحو المحطة.

فكرت وهي تنظر إلى المباني المرصوصة بجوار بعضها كأحجار الدومينو البيضاء، يا تُرى أمها في أي مبنى من هذه المباني؟...  أو ربما في الشارع تبحث عن "خصاي" متوسلة لشخص ما، وشعرها وملابسها المزخرفة مُبتلة تحت المطر؟...  ثم تخيلت هذا أيضًا. كيف تطوف أمها شوارع المدينة التي تهب فيها الرياح المُمطرة بملابس مبتلة بحثًا عن ابنها "خصاي"؟...  تألمت ألمًا شديدًا من هذا المشهد، ومسحت الدموع المنهمرة من عينيها بظهر يدها وعادت مكانها، وتمددت على الكنبة وسحبت البطانية على رأسها، وفكرت وقلبها يخفق... لماذا تأخرت أمها كل هذا الوقت؟...  ربما ألقت الشرطة التي تحدث عنها زوج خالتها الذي تعلو وجهه حمرة القبض على أمها أيضًا؟... هل ألقوا القبض عليها وزجوا بها في السجن بجوار "خصاي"؟

ثم استحضرت هذا أيضًا أمام عينيها... أمها الباكية التي يتناثر شعرها على كتفيها مع "خصاي" ذي الوجه الممتلئ بالشعر والقميص المتسخ يتعلقان بالأسياخ السميكة للسجن شبه المظلم، ويتوسلان لشخص ما وهما يتأوهان... 

كلما هبت الرياح من منفذ الهواء بالنافذة، كان البكاء يتملك "فريدة"، وكانت تتمالك نفسها بصعوبة حتى لا تنخرط في البكاء وهي تدفس وجهها في الوسادة، ممنوع البكاء هنا، وكذلك كانت أمها تقول لها دائمًا إنها عندما تبكي يصبح وجهها قبيحًا، وحينئذ يتضخم فمها الضخم أصلاً، ويكاد يتسع حتى يصل إلى أذنيها، ويتضخم أنفها، ويصبح مثل الكمثرى، ولا يزول احمرار وجهها لمدة ساعات.

بعد ذلك فكرت، وهي منفطرة القلب، في "خصاي"، ربما يكون في مكان ما قريب جدًّا: في إحدى هذه المباني المظلمة نوافذها والمُسلطة لها كالأعمى؟...

حُك باب حجرة النوم ثم فُتح، هجم الطفلان مندفعين للداخل، وجريا بأرجلهم الحافية في أرجاء الحجرة، جاءت السيدة "سونا" على صوتهما، فأمسكت حفيديها من يديهما، وذهبت بهما بهدوء إلى الحجرة الأخرى لتُلبسهما ملابسهما.

ما أسرع أن استيقظ الطفلان من النوم؟ أما هي التي غلبها النوم! ...  فكرت في ذلك، ونهضت: ألم تشعر بأن النوم غلبها من نعومة الكنبة الدافئة، وبسبب أنها نامت الليلة الماضية بأكملها تتأرجح على المقعد الصلد كالحديد بعربة القطار، وتفزع كل دقيقة، وتفقد توازنها بسبب صوت القطار الذي يُصدر صوت أزيز عالٍ؟...

ارتطم أحد الطفلين بأرضية الطُّرقة، وبدأ في بكاء حارٍ، دبت في قلب "فريدة" أشياء سيئة بشأن أمها، وكذلك "خصاي" بسبب صوت الطفل، أو ربما بسبب تلبد الجو بالغيوم فجأة.

كان بكاء الطفل الذي يعوي بصوت كالبومة في الطُّرقة، وكذلك هذا البيت الذي يسوده الترف في كل شيء، وكذلك الرياح التي تقرع مكانًا ما كالباب، كل هذه الأشياء تُنبئ بأن شيئًا ما مُخيف وخطير يقترب من "فريدة" هذا المساء... 

نهضت وارتدت ملابسها بسرعة، وأسرعت واقفة أمام النافذة، ونظرت إلى المدينة، بسبب أن الجو قد ادلهم بالغيوم، فكان لا يُرى أحد في الشارع بصفة عامة... واشتدت الرياح أيضًا... وكانت تصدر صفيرًا، وتهز النافذة وفتحة التهوية الموجودة بها...

كانت هناك إضاءة تضيء في نوافذ المبنى المواجهة تشبه القبر الضخم الرمادي تحت ضوء الشمس، وكان يبدو خلف الستائر الشفافة أشخاص مجتمعون حول مائدة الطعام، يجلسون في منازلهم المضيئة والدافئة يحتسون الشاي، ويتناولون الغداء... ولا يوجد خبر عن أمها حتى الآن.

لم يمض وقت طويل حتى عاد السيد "رحيم" من العمل، وجاء أيضًا والدا الطفلين.

وضعت السيدة "سونا" مريلة المطبخ على صدرها، وزينت المائدة المستديرة الموجودة في منتصف حجرة الضيوف، وملأت المائدة بالأواني والصحون. ذهبت للمطبخ، وأحضرت الأرز والدجاج المحمر الذي طهته مسبقًا، وكذلك حساء اللبن الساخن المطبوخ بالخضروات الذي وزعته على الأكواب البلورية، ووضعتها على المائدة.

اجتمع الجميع حول المائدة، وضعت السيدة "سونا" الطعام في طبق "فريدة"، وقالت:

-       الطعام سوف يبرد، ابدئي.

ثم وضعت الطعام في الأطباق الأخرى.

بدأت أصوات الملاعق والسكاكين في الارتفاع، أما "فريدة" فقد تملكها البكاء.

وقفت اللقمة التي أكلها السيد "رحيم" في حلقه، وقال:

-       يا بُنيتي، ماذا حدث لك؟

ولسبب ما نظر إلى وجه السيدة "سونا"، تعجبتْ السيدة "سونا" من اضطراب "فريدة"...  ونظرت بنظرات كالمذنب إلى زوجها، وأطفالها، ثم إلى "فريدة"، وقالت:

-       أنتِ يا بُنتي، ماذا حدث لكِ؟

فتأثرت "فريدة" بعض الشيء من صوت السيدة "سونا" الرقيق، وسالت على خديها دموع عينيها التي كانت تكتمها بداخلها، وانسالت على صدرها.

نظر الجميع إلى بعضهم في خجل.

مسحت "فريدة" دموع عينيها بظهر يدها، ونظرت إلى حبات الكمثرى الناضجة التي لفتها هي وأمها في القرية أمس قُبيل المساء في ورق الجرائد القديمة، ووضعتها بالترتيب في قعر السلة، أما تلك الكمثرى فهي الآن في إناء الفاكهة الأبيض الصيني وسط المائدة، طأطأت رأسها لأسفل، وضغطت على شفتيها حتى تكتم حزنها البالغ حلقها ولا يصدر صوت كدرها.

قطّع السيد "رحيم" إحدى الكمثرات إلى شرائح في الطبق، وعلى الرغم من أنه وضعه أمامها، فإن "فريدة" لم ترفع رأسها، فذكّرت نفسها بالمشاهد المرعبة التي رأتها في أفلام الحرب حتى لا تبكي، كي تمتثل لما قالته أمها: "فلا يُفتح فمها الضخم حتى أذنها".

-       أينما كانت أمك الآن، سوف تأتي.

أخذت السيدة "سونا" إحدى شرائح الكمثرى بشوكة "فريدة"، وعلى الرغم من أنها مدتها إلى فمها، فلم تهتم "فريدة" بالكمثرى، ولا بالسيدة "سونا" أيضًا.

فقال السيد "رحيم" بضيق:

-       لا شأن لك بها، ستأكل بنفسها.

قال ذلك ثم نهض على قدميه، وذهب وجلس على المقعد المواجه للتلفاز الموجود في ناحية.

لم تذق "فريدة" أيًا من الأطعمة المرصوصة على المائدة، ظلت جالسة مُدلاة الرأس على المائدة طيلة المساء، وكذلك بعد انتهاء طعام العشاء، رُفعت المائدة، وذهب كل واحد إلى غرفته، ولم تتحرك من مكانها.

بعد أن انشغل الجميع كل بشأنه، ونُسيت، نهضت على قدميها، وذهبت أمام النافذة، واختبأت خلف الستارة الناعمة، وبكت هناك وهي تنظر للشارع المظلم.

أصبح لا يوجد أحد في الشوارع التي تضربها الرياح العاتية والأمطار... كانت أعمدة الإنارة الطويلة المرصوصة على جانبي الأرصفة تترنح من شدة الرياح كالأشجار عديمة الأغصان والضعيفة، وتكاد تنخلع من مكانها... سُمع من مكان بعيد بالمدينة أصوات إنذار سيارة الإطفاء المرعبة، فكرت "فريدة" وهي تشعر بالضيق في أنه لو لم تأت أمها الآن، هذا يعني أنها لن تأتي بعد ذلك... وسوف تظل هي أيضًا في هذا المنزل المضيء أو الغريب المليء بالرفاهية حتى نهاية عمرها، ثم شعرت بضيق شديد للغاية بعد الفكرة التالية التي خطرت ببالها.

والفكرة التي خطرت ببالها هي أنه احتمال كبير أن أمها جاءت بها إلى هنا – إلى هذا المنزل لهذا السبب؛ فقد خرجت بحُجة البحث عن "خصاي"، وأنها سلمتها إلى هؤلاء الناس للأبد، وعادت إلى القرية. وقد تخلصت منها بهذه الطريقة لأنها "لا تستطيع تربية الأطفال والتكفل بهم" كما قالت هي ذلك. فقد نفذت الرغبة القديمة لابنة عمها "سونا" وهي أنها "كانت تبحث عن فتاة مُطيعة ومؤدبة تساعدها في أعمال المنزل". فهي قد سلمتها لهذا المنزل، كما سلمت أختها الكبرى التي تكبرها بعامين العام الماضي لأبناء خالها الذين يعملون في وظائف مرموقة... شعرت أن داخلها يرتعد ويهتز بسبب هذه الفكرة كالورقة... هذا يعني أنها من اليوم سوف تعيش هنا. وسوف تأكل في الصباح الفطائر التي يعلوها السكر، وفي المساء الدجاج المحمر، وفي وقت الظهيرة، سينبغي عليها أن تنام على الكنبة الحريرية المموجة تحت الدقات المملة لساعة الحائط بحجرة الضيوف... 

أصبحت الآن لا تستطيع أن تكتم ضيقها الذي يُضيَّق نفسها، ويتحشرج في حلقها عدة مرات من قبل، وعلى الرغم من أنها وضعت يديها الاثنتين على فمها، وضغطت على أسنانها حتى لا يُسمع صوتها، فلم يتوقف نحيبها. ولأن صوت التلفاز أعلى من صوت بكائها، فقد بكت مدة طويلة بانتحاب شديد خلف الستارة، ثم مسحت دموع عينيها، ورفعت الستارة، ونظرت إلى الباب الخارجي المُقوس الشكل الظاهر من هناك... 

كان على أمها أن تأتي من هذا الباب، ولا يبدو أن هذا الباب الداكن اللون الذي يُشبه الحذاء الجلدي المضاد للماء والطين سوف يترك أحدًا يدخله... 

في تلك اللحظة، دخل أحد الطفلين خلف الستارة، والتف بقدمي "فريدة"، ولم يمض الكثير حتى جاء الطفل الثاني وأمسك "فريدة" من جنبها، ورغم أنه أخذ يشد ملابسها كالجرو، فلم تتحرك "فريدة" من مكانها، ولم تخر على ركبتيها، وتزحف كالأرنب حتى تداعبهما. آنذاك أدخل أحد الطفلين معصمها بين أسنانه الحادة الصغيرة، وعضها بكل قوته، فدمعت عينا "فريدة" من الوجع.

لو أرادت أن تعاقبهما بصفعة واحدة، ولكنها لم تنبس ببنت شفة، فجزَّت على أسنانها وانتظرت بصبر شيئًا ما... فرأى الطفلان أنها لا تتكلم، فبدأوا في استخدام اللكمات، وركلوها بأيديهما الصغيرة في بطنها وفخذيها، وخدشا ذراعيها... 

كانت "فريدة" لا تتكلم...  وتريد أن يضربها الطفلان أكثر بعض الشيء، ويعضاها من ذراعيها وقدميها، حتى يسيل منها الدم، وتصبح في حالة لا تستطيع أمها أن تتعرف عليها عندما تعود...

انتفض المنزل بأكمله على صرخة انطلقت من حجرة الضيوف كالقذيفة... فتسمرت السيدة "سونا" والسيد "رحيم" اللذان أسرعا من مكانهما من هول ما سمعا.

جلست "فريدة" على ركبتيها وسط الغرفة، وكانت تعوي بصوت مخيف يشبه صوت حيوان ما، فاتحة فمها للسماء... وكان الطفلان ينظران لفريدة في أحد الأركان واضعين أصابعهم في فمهما... كان فم "فريدة" الصغير مفتوحًا بشدة كالمطاط... وكانت أنفها متضخمة، وتحولت إلى ما يشبه الكمثرى المنتفخة المليئة بالماء...

دق جرس الباب الخارجي الذي يشبه القوس، إما من بكاء "فريدة" أو ارتطام الرياح بالنوافذ واهتزاز الزجاج. وكان القادم هو "فاطمة". أسرعت للداخل بسرعة على صوت ابنتها واحتضنت "فريدة"، فازداد حزن الفتاة من هذه الحركة، وارتمت في حضن أمها، وقالت ونَفَسُها يتقطع من البكاء:

-       قتلووني ي ي ي.. هنا...  !!! قتلووني.. ي:

نظرت "فاطمة" إلى بنت عمها بعيون يعلوها الذهول.

صار وجه السيدة "سونا" وكذلك السيد "رحيم" كأنهما بالفعل قد قتلوا الفتاة.